الاثنين، 30 نوفمبر 2015

"عيناك فتنة"

صفاء متاع الله

نشر بمجلة الحياة الثقافية نوفمبر 2013








صعدت في ذلك الصباح الباكر إلى الحافلة التي تحملها إلى وسط العاصمة تونس. مازال النوم لا ينوي هجر عينيها، تتكاسل حتى في الإمساك بإحدى أعمدة الحافلة فظلت تتأرجح يمنة ويسرة. في المحطة التالية توقفت الحافلة كما تفعل دائما ثمّ عادت إلى السير مجددا. من الخلف تناهت إلى أنفها رائحة مسك رقيقة غمرتها وزادت من رغبتها الجامحة في الاسترخاء. ثم ارتفعت يد تشقّ الطريق بين الأيادي الممسكة بعمود الحافلة الذي تشبّثت به رغم قصر قامتها لتتمكّن اليد أخيرا من إيجاد مكان لها بجانب يدها. رقيقة ناعمة تتفجر رجولة. هي تعرف من يستعمل مثل هذه العطور. التفتت لتتأكد من صحة ظنونها فالتقت العيون. أشرق يومها في غفلة منها وانتحرت صلابتها في زرقة عينيه الحارة المتكسّرة على شاطئ بلّوريّ. عينان هادئتان رصينتان يطغى عليهما بريق الحياة والجنة معا. هو أيضا كان مشدوها مثلها بالحرارة المنبعثة من عينيها وتسمّر عاجزا عن طأطأة رأسه كما عليه أن يفعل. عيناها كانتا تتّقدان حياة ومرحا... هناك في أعماق سمرتها رأى الخلود.
حدجه زميله بنظرة حازمة من خلفها، فتنبّه إلى أمره. طأطأ رأسه وعكف على نفسه يستغفر الله ويستعيذ به من الشيطان في سرّه. استدارت هي الأخرى. وظلّت ملامح وجهه تسكن مخيّلتها هاجسا صباحيّا بطعم البن الذي كانت ستشربه في إحدى المقاهي. استرجعت تفاصيل صغيرة التقطتها، لحيته الخفيفة التي غمرت وجنتيه وذقنه، شعره المغطّى بتلك القبّعة الخفيفة المدوّرة الشكل التي لا تعرف اسمها، رقبته الجميلة التي غطّى قميصه الناصع البياض نصفها. عيناه... عيناه... «عيناك غابتا نخيل ساحة السّحر... أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر»... كانت تردّد المقاطع الشعرية في صمت.
الكل يتدافع هنا داخل الحافلة التي تزداد اكتظاظا. بصعوبة حصلت على مقعد، جلست، فالتقتالعيون مجدّدا. هي لم تستطع غضّ بصرها. عيناه أجمل من أن تحرم منهما. أمّا هو فكان مشتّتا بينها وبين توصيات والده: « النساء دربك إلى جهنّم وعذاب القبر فاجتنبهنّ» «النساء أخوات الشيطان»... «كلاّ، أبي، لا يمكن لمثل هذه البراءة أن تكون أختا للشيطان، لم لم تقل أنّها ملاك نزل إليّ من السّماء لينير حياتي ببريق عينيها؟» هكذا كانا يسترقان النظر خلسة من إخوانه الذين أدركوا أنّ أخاهم وقع بين براثن الحياة وشهواتها المميتة. فالتفّوا حوله ورمقها أحدهم بنظرة حازمة شديدة تنذر ربّما بقيام الحدّ عليها .
كان يقترب منها كلّما صعد أناس آخرون إلى الحافلة بفضل التدافع... «هيا... اقترب أكثر فأكثر فعيناك أجمل من الجنة... عيناك هما الجنة».
على طول الرّحلة كابد كثيرا حتى لا يعيد النظر إليها. صوّب بصره نحو النافذة يتطلّع في ضياع وضعف إلى السيارات وهي تبتلع الاسفلت وتتسابق فيما بينها متجاهلة الأضواء الحمراء... هي لم تكن تقاوم بل استرسلت في تأمّله متجاهلة الوعيد في عيون اخوته والعبوس الذي كسا وجوههم. مثل كتاب جرّدوه من صفحاته وتركوه غلافا بلا محتوى، مثل وردة عبثت بها الأيادي ونزعت عنها بتلاتها، مثل كأس سقط من أعلى وتهشّم إلى عشرات القطع الصغيرة كان وهو يتخيلها بين يديه ورأسها على صدره الذي أخذ يعلو وينخفض لمجرّد هذا التصور. احمرّ وجهه ولمعت في عينيه دمعة مشتعلة: «ربّاه ما أجملها. لو كانت أختا... لو كنت وحدي... لو لم أختر طريقي هذا... ربّما... أستغفر الله...»
هكذا أدرك أنّه لا مجال لأن يلتقيا أو تتقاطع دروبهما. أعاد النظر إليها واقترب منها أكثر... فأكثر. حينها أخذت قلمها وكرّاسها. اقتطعت منها ورقة صغيرة وهو الذي أصبح بجانبها حقيبته تلامس كتفها الأيمن. كتبت على الورقة الصغيرة. توقفت الحافلة. هذه هي محطته الأخيرة على ما يبدو. تأهّب اخوته للنزول واستداروا. ألقى عليها نظرة أخيرة فدسّت في يده الورقة وابتسمت له. تدفّق في يده شلاّل من الحرارة اختفى بمجرد أن سحبت أناملها من كفّه. ارتعش، انتفض تلعثم ثمّ همّ بالنزول. أمّا هي فالتفتت إلى الشبّاك باسمة.
بكى... استغفر ربّه ...خجل من نفسه... ابتسم... فرح... وازداد نشوة حين تذكّر أمر الورقة. تلك الورقة التي قد تكون همزة الوصل بينهما. ماذا كتبت؟ هل هو موعد أم رقم هاتفها أم ماذا؟ لم يطق الانتظار فتخلّف عن اخوته وفتح الورقة. اتسعت عيناه وعجز عن المشي. كتبت الفتاة في الورقة التي اقتطعتها من كراسها: «عيناك فتنة».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014